الآية رقم (25 : 27)
{ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين . ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين . ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم }
يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله، وإن ذلك من عنده تعالى وبتأييده وتقديره لا بعددهم ولا بعددهم، ونبههم على أن النصر من عنده سواء قل الجمع أو كثر، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم "أخرج البيهقي: أن رجلاً قال يوم حنين: لن نغلب من قلة؟ وكانوا اثني عشر ألفاً، فشق ذلك على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه: {ويوم حنين...} الآية"، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً، فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم أنزل اللّه نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه، ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده، وبإمداده، وإن قل الجمع، {فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه واللّه مع الصابرين}،
وقد كانت وقعة حنين حنين: اسم موضع بأوطاس، عرف باسم رجل اسمه: حنين بن قانية بن مهلائيل من العماليق، كما في معجم البكري بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة، وذلك لما فرغ صلى اللّه عليه وسلم من فتح مكة وتمهدت أمورها، وأسلم عامة أهلها، وأطلقهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فبلغه أن هوزان جمعوا له ليقاتلوه، وأن أميرهم مالك بن عوف النضري ومعه ثقيف بكمالها وناس من بني عمرو بن عامر وعون بن عامر، وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم، وجاءوا بقضهم وقضيضهم؛ فخرج إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة، وهم الطلقاء في ألفين، فسار بهم إلى العدو، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين، فكانت فيه الوقعة في أول النهار في غلس الصبح، انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوزان، فلما توجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم وقد بادروهم، ورشقوا بالنبال، وأصلتوا السيوف، وحملوا حملة رجل واحد، كما أمرهم ملكهم؛ فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين كما قال اللّه عزَّ وجلَّ، وثبت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو راكب يومئذ بغلته الشبهاء، يسوقها إلى نحر العدو، والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن، ويقول في تلك الحال: (أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب)، وثبت معه من أصحابه قريب من مائة، ثم أمر صلى اللّه عليه وسلم عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته: يا أصحاب الشجرة يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها، على أن لا يفروا عنه، فجعل ينادي بهم: يا أصحاب السمرة، ويقول تارة: يا أصحاب سورة البقرة، فجعلوا يقولون: لبيك لبيك، وانعطف الناس، فتراجعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حتى إن الرجل منهم إن لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه، ثم انحدر عنه وأرسله، ورجع بنفسه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمرهم عليه السلام، أن يصدقوا الحملة، وأخذ قبضة من تراب بعدما دعا ربه واستنصره، وقال: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، ثم رمى القوم بها، فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال، ثم انهزموا، فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد عن يزيد بن أسيد قال: كنت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في
غزوة حنين، فسرنا في يوم قائظ شديد الحر، فنزلنا تحت ظلال الشجر، فما زالت الشمس لبست لأمتي، وركبت فرسي، فانطلقت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو في فسطاطه، فقلت: السلام عليك يا رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته، حان الرواح، فقال: (أجل) فقال: (يا بلال)، فثار من تحت سمرة كأن ظلها ظل طائر، فقال: لبيك وسعديك وأنا فداؤك، فقال: (أسرج لي فرسي)، فأخرج سرجاً دفتاه من ليف ليس فيهما أشر ولا بطر، قال فأسرج فركب وركبنا، فصاففناهم عشيتنا وليلتنا، فتشامت الخيلان، فولى المسلمون مدبرين، كما قال تعالى: {ثم وليتم مدبرين}، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يا عباد اللّه أنا عبد اللّه ورسوله) ثم قال: (يا معشر المهاجرين أنا عبد اللّه ورسوله) قال: ثم اقتحم عن فرسه، فأخذ كفاً من تراب، فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني أنه ضرب به وجوههم، وقال: (شاهت الوجوه) فهزمهم اللّه تعالى، قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عينيه وفمه تراباً، وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض، كإمرار الحديد على الطست الجديد
رواه الإمام أحمد والحافظ البيهقي . وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي اللّه عنهما أن رجلاً قال له: يا أبا عمارة أفررتم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: لكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يفر، إن هوزان كانوا قوماً رماة، فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا، فأقبل الناس على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، فانهزم الناس، فلقد رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلته البيضاء، وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) "أخرجه الشيخان عن البراء بن عازب". قال تعالى: {ثم أنزل سكينته على رسوله} أي طمأنينته وثباته على رسوله {وعلى المؤمنين} أي الذين معه {وأنزل جنوداً لم تروها} وهم الملائكة، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير عن عبد الرحمن مولى ابن برثن، حدثني رجل كان مع المشركين يوم حنين قال: فلما التقينا نحن وأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين، لو يقوموا لنا حلب شاة، قال: لما كشفناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا، قال: فانهزمنا وركبوا أكتافنا، فكانت إياها.
وقال ابن مسعود رضي اللّه عنه: كنت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين، فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلاً من المهاجرين والأنصار قدمنا ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل اللّه عليهم السكينة، قال: ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على بغلته البيضاء يمضي قدماً، فحادت بغلته، فمال عن السرج، فقلت ارتفع رفعك اللّه، قال: (ناولني كفاً من التراب) فناولته قال: فضرب به وجوههم، فامتلأت أعينهم تراباً قال: (أين المهاجرون والأنصار؟) قلت: هم هناك، قال: (اهتف بهم) فهتفت بهم، فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم، كأنها الشهب، وولى المشركون أدبارهم "رواه الحافظ البيهقي والإمام أحمد في مسنده بنحوه". وعن شيبة بن عثمان قال: رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين قد عري، ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة أياهما، فقلت اليوم أدرك ثأري منه قال: فذهبت لأجيئه عن يمينه، فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب قائماً عليه درع بيضاء كأنها فضة يكشف عنها العجاج، فقلت: عمه ولن يخذله، قال: فجئته عن يساره، فإذا أنا بأبي سفيان، فقلت: ابن عمه ولن يخذله، فجئته من خلفه، فلم يبق إلا أن أسوره سورة بالسيف، إذ رفع لي شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق فخفت أن يخمشني، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى، فالتفت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال: (يا شيبة يا شيبة ادن مني، اللهم أذهب عنه الشيطان) قال: فرفعت إليه بصري ولهو أحب إليَّ من سمعي وبصري، فقال: (يا شيبة قاتل الكفار) "أخرجه الحافظ البيهقي". قال محمد بن إسحاق عن جبير بن مطعم رضي اللّه عنه قال: إنا لمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين، والناس يقتتلون، إذ نظرت إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السماء، حتى وقع بيننا وبين القوم، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي فلم يكن إلا هزيمة القوم، فما كنا نشك أنها الملائكة، وفي صحيح مسلم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (نصرت بالرعب وأوتيت جوامع الكلم)، ولهذا قال تعالى: {ثم أنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين}، وقوله: {ثم يتوب اللّه من بعد ذلك على من يشاء واللّه غفور رحيم} قد تاب اللّه على بقية هوازن فأسلموا وقدموا عليه مسلمين ولحقوه، وقد قارب مكة عند الجعرانة، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوماً، فعند ذلك خيَّرهم بين سبيهم وبين أموالهم، فاختاروا سبيهم، وكانوا سنة آلاف أسير ما بين صبي وامرأة، فردَّه عليهم، وقسم الأموال بين الغانمين، ونفل أناساً من الطلقاء، لكي يتألف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مائة مائة من الإبل، وكان من جملة من أعطى مائة "مالك بن عوف النضري واستعمله على قومه كما كان، فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله * في الناس كلهم بمثل محمد
فكأنه ليث على أشباله * وسط المباءة خادر في مرصد
الآية رقم (28 : 29)
{ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم . قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين ديناً وذاتاً، بنفي المشركين الذين هم نجس عن المسجد الحرام، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية، وكان نزولها في سنة تسعن ولهذا بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علياً صحبة أبي بكر وأمره أن ينادي في المشركين ألا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فأتم اللّه ذلك وحكم به شرعاً وقدراً، وكتب عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، قال اللّه تعالى: {إنما المشركون نجس}، وقال عطاء: الحرم كله مسجد لقوله تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}، ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك، كما ورد في الصحيح: (المؤمن لا ينجس)، وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات، لأن اللّه تعالى أحل
طعام أهل الكتاب، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وقال أشعث عن الحسن من صافحهم فليتوضأ. وقوله: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم اللّه من فضله}، قال محمد بن إسحاق: قال الناس: لتقطعن عنا الأسواق، ولتهلكن التجارة، وليذهبن عنا ما كنا نصيب فيها من المرافق، فأنزل اللّه: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم اللّه من فضله} "في اللباب: أخرج أبي حاتم: كان المشركون يجيئون إلى البيت بالطعام يتجرون فيه، فلما نهوا عن إتيان البيت، قال المسلمون: أين لنا الطعام؟ فأنزل اللّه: {وإن خفتم ...} الآية. وأخرج ابن جرير: لما نزلت {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام..} شق ذلك على المسلمين، وقالوا: من يأتينا بالطعام وبالمتاع؟ فأنزل اللّه الآية"من وجه غير ذلك {إن شاء}، إلى قوله: {وهم صاغرون} أي هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق، فعوضهم اللّه مما قطع أمر الشرك ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية، {إن اللّه عليم} أي بما يصلحكم {حكيم} أي فيما يأمر وينهى عنه لأنه الكامل في أفعاله وأقواله، العادل في خلقه وأمره تبارك وتعالى، ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل الذمة، وقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر
ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}
فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم لم
يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل ولا بما جاءوا به، وإنما يتبعون أراءهم وأهواءهم وأباءهم فيما هم فيه، لا لأنه شرع اللّه ودينه، لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيماناً صحيحاً لقادهم ذلك
إلى الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، لأن جميع الأنبياء بشروا به وأمروا باتباعه، فلما جاءوا كفروا به وهو أشرف الرسل على أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند اللّه، بل لحظوظهم وأهوائهم، فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء، وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم، ولهذا قال: {قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر} الآية.
وهذه الآية الكريمة نزلت أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين اللّه أفواجاً واستقامت جزيرة العرب، أمر اللّه ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى، وكان ذلك في سنة تسع؛ ولهذا تجهز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم، واجتمع من المقاتلة نحو ثلاثين ألفاً، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم؛ وكان ذلك في عام جدب، ووقت قيظ وحر، وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد الشام لقتال الروم فبلغ تبوك فنزل بها وأقام بها قريباً من عشرين يوماً، ثم استخار اللّه في الرجوع فرجع عامه ذلك لضيق الحال، وضعف الناس، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء اللّه تعالى. وقوله: {حتى يعطوا الجزية} أي إن لم يسلموا {عن يد}: أي عن قهر لهم وهم غلبة {وهم صاغرون} أي ذليلون حقيرون مهانون، فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة أشقياء، كما جاء في صحيح مسلم: (لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ من رواية عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه حين صالح نصارى من أهل الشام: (بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا كتاب لعبد اللّه عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديراً ولا كنسية ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها، ولا نحيي منها ما كان خططاً للمسلمين، وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم، ولا نؤوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوساً، ولا نكتم غشاً للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شركاً، ولا ندعو إليه أحداً، ولا نمنع أحداً من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه، وأن نوقر المسلمين، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئاً من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعريبة، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رؤوسنا، وأن نلزم حيثما كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا، وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا، وأن لا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طريق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفيفاً، وأن لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نحرج شعانين ولا بعوثاً، ولا نرفع أصواتنا
مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين، ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين، وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم، قال: فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه: )ولا نضرب أحداً من المسلمين) شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم ووظفنا على أنفسنا، فلا ذمة لنا، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق)
الآية رقم (30 : 31)
{ وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون . اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون }
وهذا إغراء من اللّه تعالى للمؤمنين على قتال الكفار من اليهود والنصارى لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة والفرية على اللّه تعالى، فأما اليهود فقالوا في العزيز إنه ابن اللّه، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، وأما ضلال النصارى في المسيح فظاهر، ولهذا كذب اللّه سبحانه الطائفتين، فقال: {ذلك قولهم بأفواههم} أي لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلافهم، {يضاهئون} أي يشابهون {قول الذين كفروا من قبل} أي من قبلهم من الأمم ضلوا كما ضل هؤلاء {قاتلهم اللّه} قال ابن عباس: لعنهم اللّه {أنى يؤفكون}؟ أي كيف يضلون عن الحق وهو ظاهر ويعدلون إلى الباطل؟ وقوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه والمسيح ابن مريم}، روى
الإمام أحمد والترمذي عن عدي بن حاتم رضي اللّه عنه: أنه لما بلغته دعوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم من
رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقدم عدي إلى المدينة، وكان رئيساً في قومه
طيئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه} قال فقلت: إنهم لم يعبدوهم فقال: (بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم) وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يا عدي ما تقول؟ أيضرك أن يقال اللّه أكبر؟ فهل تعلم شيئاً أكبر من اللّه؟ أيضرك أن يقال لا إله إلا اللّه، فهل تعلم إلهاً غير اللّه؟) ثم دعاه إلى الإسلام، وفأسلم وشهد شهادة الحق، قال: فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال: (إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون)
وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبد اللّه بن عباس وغيرهما في تفسير: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه} إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا، ولهذا قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا} أي الذي ما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ {لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} أي تعالى وتقدس وتنزه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد لا إله إلا هو ولا رب سواه.
الآية رقم (32 : 33)
{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون . هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون }
يقول تعالى: يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب {أن يطفئوا نور اللّه}: أي ما بعث به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الهدى ودين الحق بمجرد جدالهم وافترائهم، فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخة، وهذا لا سبيل إليه فكذلك ما أرسل به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا بد أن يتم ويظهر، ولهذا قال تعالى مقابلاً لهم فيما راموه وأرادوه: {ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} والكافر هو الذي يستر الشيء ويغطيه، ثم قال تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق} فالهدى هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع ودين الحق هو الأعمال الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة {ليظهره على الدين كله}: أي على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: )إن اللّه زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها) وعن تميم الدارمي رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك اللّه بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين يعز عزيزاً ويذل ذليلاً، عزاً يعز اللّه به الإسلام، وذلاً يذل اللّه به الكفر)
فكان تميم الدارمي يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية
"أخرجه الإمام أحمد في المسند". وفي المسند أيضاً عن عدي بن حاتم قال: دخلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا عدي أسلم تسلم( فقلت: إني من أهل دين، قال: (أنا أعلم بدينك منك)، فقلت أنت أعلم بديني مني؟ قال: (نعم ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك؟) قلت بلى! قال: (فإن هذا لا يحل لك في دينك) قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها، قال: (أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام، تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟) قلت: لم أرها وقد سمعت بها. قال: (فوالذي نفسي بيده ليتمن هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز) قلت كسرى بن هرمز؟ قال: (نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد) قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة، لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد قالها "أخرجه أحمد في المسند". وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: )لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى( فقلت: يا رسول اللّه إن كنت لأظن حين أنزل اللّه عزَّ وجلَّ: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق} الآية، أن ذلك تام، قال: (إنه سيكون من ذلك ما شاء اللّه عزَّ وجلَّ، ثم يبعث اللّه ريحاً طيبة، فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم) "رواه مسلم في صحيحه".
الآية رقم (34 : 35)
{ يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم . يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون }
قال السدي: الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى، وهو كما قال، فإن الأحبار هم علماء اليهود كما قال تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت} والرهبان: عباد النصارى، والقسيسون: علماؤهم، كما قال تعالى: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا} والمقصود التحذير من علماء السوء وعباد الضلال، قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبّادنا كان فيه شبه من النصارى، وفي الحديث الصحيح: (لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة( قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟)، وفي رواية فارس والروم؟ قال: (فمن الناس إلا هؤلاء؟) والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم، ولهذا قال تعالى: {ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه}، وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين، ومناصبهم ورياستهم في الناس يأكلون أموالهم بذلك، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية خراج وهدايا وضرائب تجيء إليهم، فلما بعث اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم طمعاً منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات، فأطفأها اللّه بنور النبوة وسلبهم إياها، وعوضهم الذل والصغار، وباؤوا بغضب من اللّه تعالى. وقوله تعالى: {ويصدون عن سبيل اللّه} أي وهم مع أكلهم الحرام، يصدون الناس عن اتباع الحق، ويلبسون الحق بالباطل، ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعون إلى الخير وليسوا كما يزعمون، بل هم دعاة إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وقوله: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه} الآية، هؤلاء هم القسم الثالث من رؤوس الناس، فإن الناس عالة على العلماء وعلى العبّاد، وعلى أرباب الأموال، فإن فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس كما قال ابن المبارك:
وهل أفسد الدين إلا الملوك * وأحبار سوء ورهبانها
وأما الكنز، فقال ابن عمر: هو المال الذي لا تؤدى زكاته، وعنه قال: ما أُدي زكاته فليس
بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وما كان ظاهراً لا تؤدى زكاته فهو كنز وروي هذا عن
ابن عباس وجابر وأبي هريرة وغيرهم ، وقال عمر بن الخطاب: أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفوناً في الأرض، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض. وروى البخاري عن خالد بن أسلم قال خرجنا مع عبد اللّه بن عمر فقال: هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت جعلها اللّه طهرة للأموال، وكذا قال عمر بن عبد العزيز وعراك ابن مالك نسخها قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} الآية.
قال الإمام أحمد عن ثوبان قال: لما نزل في الذهب والفضة ما نزل قالوا: فأي المال نتخذ؟ قال عمر: فأنا أعلم لكم ذلك، فأوضع على بعير فأدركه وأنا في أثره، فقال: يا رسول اللّه أي المال نتخذ؟ قال: (قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة تعين أحدكم على أمر الآخرة) حديث آخر : روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {والذين يكنزون الذهب والفضة} الآية، كبر ذلك على المسلمون وقالوا: ما يستطيع أحد منا يدع لولده مالاً يبقى بعده، فقال عمر: أنا أفرّج عنكم، فانطلق عمر واتبعه ثوبان فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا نبي اللّه إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن اللّه لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرضت المواريث من أموال تبقى بعدكم)، قال فكبر
عمر، ثم قال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: (الا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته)
"رواه أحمد وأبو داود والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه".
وقوله تعالى: {يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} أي يقال لهم هذا الكلام تبكيتاً وتقريعاً وتهكماً، كما في قوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} أي هذا بذاك وهذا الذي كنتم تكنزون لأنفسكم، ولهذا يقال من أحب شيئاً وقدمه على طاعة اللّه عُذّب به، وهؤلاء لما كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا اللّه عنهم عذبوا بها، وكانت أضر الأشياء عليهم في الدار الآخرة، فيحمى عليها في نار جهنم، وناهيك بحرها، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، قال عبد اللّه بن مسعود: والذي لا إله غيره لا يكوى عبد بكنز فيمس ديناراً ديناراً ولا درهم درهماً، ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته؛ وقال طاووس: بلغني أن الكنز يتحول يوم القيامة شجاعاً يتبع صاحبه وهو يفر منه ويقول: أنا كنزك لا يدرك منه شيئاً إلا أخذه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى
يقضى بين العباد ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار)
الآية رقم (36)
{ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين }
عن أبي بكرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم خطب في حجته فقال: (ألا إن الزمان قد
استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)
"رواه الإمام أحمد وأخرجه البخاري في التفسير بتمامه"الحديث. وعن ابن عمر قال: خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال: (أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان، وذو القعدة وذو الحجة والمحرم) "أخرجه ابن جرير وابن مردويه". وقال سعيد بن منصور عن ابن عباس في قوله: {منها أربعة حرم} قال: محرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة، وقوله صلى اللّه عليه وسلم في الحديث: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض) تقرير منه صلوات اللّه وسلامه عليه، وتثبيت للأمر على ما جعله اللّه في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقص، ولا نسيء ولا تبديل، كما قال في تحريم مكة: (إن هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السموات الأرض فهو حرام بحرمة اللّه تعالى إلى يوم القيامة)، وهكذا قال ههنا: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض) أي الأمر اليوم شرعاً كما ابتدع اللّه ذلك في كتابه يوم خلق السموات والأرض، وقد قال بعض المفسرين والمتكلمين على هذا الحديث إن المراد بقوله: (قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض( أنه اتفق أن حج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في تلك السنة في ذي الحجة، وأن العرب قد كانت نسأت النسيء يحجون في كثير من السنين بل أكثرها في غير ذي الحجة، وزعموا أن حجة الصدّيق في سنة تسع كانت في ذي القعدة، وفي هذا نظر، كما سنبينه إذا تكلمنا على النسيء.
وقوله تعالى: {منها أربعة حرم} فهذا مما كانت العرب أيضاً في الجاهلية تحرمه، وهو الذي كان عليه جمهورهم وأما قوله صلى اللّه عليه وسلم: (ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان) فإنما أضافه إلى مضر ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم، فبين صلى اللّه عليه وسلم أنه رجب مضر لا رجب ربيعة؛ وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة: ثلاثة سرد، وواحد فرد، لأجل مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل أشهر الحج شهراً وهو ذو القعدة، لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرم بعده شهر آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمناً، وقوله: {ذلك الدين القيم} أي هذا هو الشرع المستقيم من امتثال أمر اللّه فيما جعل من الأشهر الحرم والحذو بها على ما سبق من كتاب اللّه الأول، قال تعالى: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}، وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام؛ ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وقال ابن عباس في قوله: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} قال في الشهور كلها، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حراماً وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم، وقال قتادة: إن الظلم في الأشهر الحُرُم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن اللّه يعظم من أمره ما يشاء، وقال: إن اللّه اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر فعظموا ما عظم اللّه، فإنما تعظيم الأمور بما عظّمها اللّه به عند أهل الفهم وأهل العقل، وقال محمد بن إسحاق: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} أي لا تجعلوا حرامها حلالاً ولا حلالها حراماً كما فعل أهل الشرك، وهذا القول اختيار ابن جرير، وقوله: {وقاتلوا المشركين كافة} أي جميعكم {كما يقاتلونكم كافة} أي جميعاً {واعلموا أن اللّه مع المتقين}.
وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام هل هو منسوخ أو محكم على قولين: أحدهما وهو الأشهر أنه منسوخ لأنه تعالى قال: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} وأمر بقتال المشركين، وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمراً عاماً، ولو كان محرماً في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها، ولأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة، كما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى هوزان في شوال فلما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع فلهم لجأوا إلى الطائف فعمد إلى الطائف، فحاصرهم أربعين يوماً وانصرف ولم يفتتحها، فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام القول الآخر : أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الحرام، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر اللّه ولا الشهر الحرام}، وقال: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص}، وقال: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} الآية، وأما في قوله: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف ويكون من باب التهييج والتحضيض، أي كما يجتمعون لحربكم إذا حاربكم فاجتمعوا أنتم أيضاً لهم إذا حاربتموهم وقاتلوهم بنظير ما يفعلون، ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرم إذا كانت البداءة منهم، كما قال تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص}، وقال تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} الآية، وهكذا الجواب عن حصار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام، فإنه من تتمة قتال هوزان وأحلافها من ثقيف فإنهم هم الذين ابتدأوا القتال وجمعوا الرجال ودعوا إلى الحرب والنزال، فعندها قصدهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما تقدم، فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم فنالوا من المسلمين وقتلوا جماعة، واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريباً من أربعين يوماً وكان ابتداؤه في شهر حلال، ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أياماً ثم قفل عنهم لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، وهذا أمر مقرر وله نظائر كثيرة واللّه أعلم.
الآية رقم (37)
{ إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين }
هذا مما ذم اللّه تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع اللّه بآرائهم الفاسدة، وتحليلهم ما حرم اللّه وتحريمهم ما أحل اللّه، فإنهم كان فيهم من القوة والعصبية ما استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم، المانع لهم من قتال أعدائهم، فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم فأخروه إلى صفر، فيحلون الشهر الحرام، ويحرمون الشهر الحلال، ليواطئوا عدة ما حرم اللّه. قال ابن عباس: النسيء أن جنادة الكناني كان يوافي الموسم في كل عام، وكان يكنى أبا ثمامة، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب، ألا وإن صفر العام الأول العام حلال فيحله للناس، فيحرم صفراً عاماً، ويحرم المحرم عاماً، فذلك قول اللّه: {إنما النسيء زيادة في الكفر} يقول: يتركون عاماً وعاماً يحرمونه. وعن مجاهد: كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى المواسم على حمار له فيقول أيها الناس: إني لا أعاب ولا أجاب ولا مرد لما أقول، إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر؛ ثم يجيء العام المقبل بعده، فيقول مثل مقالته، ويقول: إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم، فهو قوله: {ليواطئوا عدة ما حرم الله} قال: يعني الأربعة فيحلوا ما حرم اللّه بتأخير هذا الشهر الحرام، فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم يحرمون عوضه صفراً وبعده ربيع وربيع إلى آخر السنة بحالها على نظامها وعدتها وأسماء شهورها، ثم في السنة الثانية يحرمون المحرم ويتركونه على تحريمه وبعده صفر وربيع وربيع إلى آخرها فيحلونه عاماً ويحرمونه عاماً {ليواطئوا عدة ما حرم اللّه فيحلوا ما حرم اللّه}: أي في تحريم أربعة أشهر من السنة، إلا أنهم تارة يقدمون تحريم الشهر الثالث من الثلاثة المتوالية وهو المحرم، وتارة ينسئونه إلى صفر أي يؤخرونه، وقد قدمنا الكلام على قوله صلى اللّه عليه وسلم: (إن الزمان قد استدار) الحديث: أي إن الأمر في عدة الشهور، وتحريم ما هو محرم منها، على ما سبق في كتاب اللّه من العدد والتوالي، لا كما تعتمده جهلة العرب من فصلهم تحريم بعضها بالنسيء عن بعض واللّه أعلم. وقال محمد بن إسحاق: كان أول من نسأ الشهور على العرب فأحل منها ما حرم اللّه وحرم منها ما أحل اللّه عزَّ وجلَّ القلمس، ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد، ثم من بعد عباد ابنه قلع بن عباد، ثم ابنه أمية بن قلع، ثم ابنه عوف بن أمية، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف، وكان آخرهم، وعليه قام الإسلام، فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه، فقام فيهم خطيباً، فحرم رجباً وذا القعدة وذا الحجة، ويحل المحرم عاماً، ويجعل مكانه صفر، ويحرمه عاماً ليواطئ عدة ما حرم اللّه فيحل ما حرم اللّه ويحرم ما أحل اللّه، واللّه أعلم. "أخرج ابن جرير: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهراً، فيحلون المحرم صفراً، فيستحلون فيه المحرمات، فأنزل اللّه {إنما النسيء...} الآية".
الآية رقم (38 : 39)
{ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل . إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير }
هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحمارة القيظ، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا
قيل لكم انفروا في سبيل اللّه} أي إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل اللّه {اثاقلتم إلى الأرض}: أي تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة}؟ أي ما لكم فعلتم هكذا رضاً منكم بالدنيا بدلاً من الآخرة؛ ثم زهَّد تبارك وتعالى في الدنيا، ورغَّب في الآخرة فقال: {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل}، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بم ترجع)، وأشار بالسبابة "أخرجه مسلم في صحيحه والإمام أحمد في المسند". وقال الأعمش {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} قال: كزاد الراكب، وقال عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه:
لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاة، قال: ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه، فلما وضع بين يديه نظر إليه فقال: أما لي من كبير ما أخاف من الدنيا إلا هذا؟ ثم ولى ظهره فبكى، وهو يقول: أف لك من دار إن كان كثيرك لقليل، وإن كان قليلك لقصير، وإن كنا منك لفي غرور. ثم توعد تعالى من ترك الجهاد فقال: {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما} قال ابن عباس: استنفر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حياً من العرب فتثاقلوا عنه فأمسك اللّه عنهم القطر فكان عذابهم {ويستبدل قوما غيركم}: أي لنصرة نبيه وإقامة دينه كما قال تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم * ثم لا يكونوا أمثالكم} {ولا تضروه شيئا}: أي ولا تضروا اللّه شيئاً بتوليكم عن الجهاد، ونكولكم وتثاقلكم عنه {واللّه على كل شيء قدير} أي قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم.
الآية رقم (40)
{ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم }
يقول تعالى: {إلا تنصروه} أي تنصروا رسوله فإن اللّه ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه كما تولى نصره {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين} أي عام الهجرة، لما همّ المشركون بقتله، فخرج منهم هارباً صحبة صديقه وصاحبه أبي بكر، فلجآ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم يسيروا نحو المدينة، فجعل أبو بكر رضي اللّه عنه يجزع أن يطلع عليهم أحد، فيخلص إلى الرسول عليه الصلاة والسلام منهم أذى، فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم يسكنه ويثبته ويقول: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما) كما قال الإمام أحمد عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صلى اللّه عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال، فقال: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما) "أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه"، ولهذا قال تعالى: {فأنزل اللّه سكينته عليه} أي تأييده ونصره عليه، أي على الرسول صلى اللّه عليه وسلم في الأشهر وروي عن ابن عباس وغيره أن الضمير يعود على أبي بكر لأن الرسول صلى اللّه عليه وسلم لم تزل معه سكينة قال ابن كثير وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة ، وقيل: على أبي بكر، لأن الرسول صلى اللّه عليه وسلم لم تزل معه سكينة، {وأيده بجنود لم تروها}: أي الملائكة {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة اللّه هي العليا} قال ابن عباس: يعني بكلمة الذين كفروا - الشرك، وكلمه اللّه هي {لا إله إلا اللّه}. وفي الصحيحين: (من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّه)، وقوله: {واللّه عزيز} أي في انتقامه وانتصاره، منيع الجناب لا يضام من لاذ ببابه، واحتمى بالتمسك بخطابه، {حكيم} في أقواله وأفعاله.
الآية رقم (41)
{ انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون }أمر اللّه تعالى بالنفير العام مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام غزوة تبوك لقتال أعداء اللّه من الروم الكفرة من أهل الكتاب، وحتم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المنشط والمكره والعسر واليسر، فقال: {انفروا خفافا وثقالا} وقال أبو طلحة: كهولاً وشباناً قال ابن عباس والحسن البصري وعكرمة ومقاتل والضحاك وغير واحد {انفروا خفافا وثقالا} أي شباباً وكهولاً ما سمع اللّه عذر أحد، ثم خرج إلى الشام، فقاتل حتى قتل. وفي رواية: قرأ أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الآية: {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل اللّه} فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباناً، جهزوني يا بنَّي، فقال بنوه: يرحمك اللّه قد غزوت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى، فركب البحر، فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير فدفنوه فيها. وقال مجاهد: شباناً وشيوخاً وأغنياء ومساكين، وقال الحكم: مشاغيل وغير مشاغيل، وقال العوفي عن ابن عباس {انفروا خفافا وثقالا} يقول: انفروا نشاطاً وغير نشاط؛ وقال الحسن البصري: في العسر واليسر. وهذا كله من مقتضيات العموم في الآية، وهذا
اختيار ابن جرير. وقال الإمام الأوزاعي: إذا كان النفير إلى دروب الروم نفر الناس إليها خفافاً وركباناً، وإذا كان النفير إلى هذه السواحل نفروا إليها خفافاً وثقالاً وركباناً ومشاة؛ وهذا تفصيل في المسألة؛ وقال السدي قوله {انفروا خفافا وثقالا} يقول: غنياً وفقيراً وقوياً وضعيفاً فجاءه رجل يومئذ زعموا أنه المقداد وكان عظيماً سميناً، فشكا إليه، وسأله أن يأذن له فأبى، فنزلت يومئذ: {انفروا خفافا وثقالا} فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس، فنسخها اللّه فقال: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا للّه ورسوله}.
وقال ابن جرير عن أبي راشد الحراني قال: وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص وقد فصل عنها من عظمه يريد الغزو، فقلت له: قد أعذر اللّه إليك، فقال: أتت علينا سورة البعوث: {انفروا خفافا وثقالا}، وقال ابن جرير عن حبان بن زيد الشرعبي قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان والياً على حمص، فرأيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار فأقلبت إليه فقلت: يا عم لقد أعذر اللّه إليك، قال: فرفع حاجبيه، فقال: يا ابن أخي استنفرنا اللّه خفافاً وثقالاً، إلا أنه من يحبه اللّه يبتليه ثم يعيده اللّه فيبقيه، وإنما يبتلي اللّه من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا اللّه عزَّ وجلَّ. ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله، فقال: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل اللّه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} أي هذا خير لكم في الدنيا والآخرة، لأنكم تغرمون في النفقة قليلاً، فيغنمكم اللّه أموال عدوكم في الدنيا مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة، كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (تكفل اللّه للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرده إلى منزله بما نال من أجر أو غنيمة)، ولهذا قال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} الآية، ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد عن أنس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لرجل: (أسلم) قال أجدني كارهاً، قال: أسلم وإن كنت كارهاً)
الآية رقم (42)
{ لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون }
يقول تعالى موبخاً للذين تخلفوا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك وقعدوا بعدما أستأذنوه في ذلك، مظهرين أنهم ذوو أعذار ولم يكونوا كذلك، فقال: {لو كان عرضا قريبا} قال ابن عباس: غنيمة قريبة {وسفرا قاصدا} أي قريباً أيضاً {لاتبعوك}: أي لكانوا جاءوا معك لذلك {ولكن بعدت عليهم الشقة}: أي المسافة إلى الشام {وسيحلفون باللّه}: أي لكم إذا رجعتم إليهم {لو استطعنا لخرجنا معكم}: أي لو لم يكن لنا أعذار لخرجنا معكم، قال اللّه تعالى: {يهلكون أنفسهم واللّه يعلم إنهم لكاذبون}.
الآية رقم (43 : 45)
{ عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين . لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين . إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون }
قال عون: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ ناداه بالعفو قبل المعاتبة، فقال: {عفا اللّه عنك لم أذنت لهم} "أخرج ابن جرير: اثنان قبلهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسارى فأنزل اللّه: {عفا اللّه عنك} اللباب"، وقال قتادة: عاتبه كما تسمعون، ثم أنزل التي في سورة النور، فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء، فقال: {فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم} الآية. وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا، ولهذا
قال تعالى: {حتى يتبين لك الذين صدقوا} أي في إبداء الأعذار {وتعلم الكاذبين} يقول تعالى: هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم في القعود، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب، فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإن لم تأذن لهم فيه، ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن باللّه ورسوله فقال: {لا يستأذنك} أي في القعود عن الغزو {الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} لأنهم يرون الجهاد قربة ولما ندبهم إليه بادروا وامتثلوا {واللّه عليم بالمتقين * إنما يستأذنك}: أي في القعود ممن
لا عذر له {الذين لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر} أي لا يرجون ثواب اللّه في الدار الآخرة على أعمالهم، {وارتابت قلوبهم} أي شكت في صحة ما جئتهم به، {فهم في ريبهم يترددون}: أي يتحيرون، يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى وليست لهم قدم ثابتة في شيء، فهم قوم حيارى هلكى، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومن يضلل اللّه فلن تجد له سبيلا.
الآية رقم (46 : 47)
{ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين . لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين }
يقول تعالى: {ولو أرادوا الخروج} أي معك إلى الغزو {لأعدوا له عدة} أي لكانوا تأهبوا له {ولكن كره اللّه انبعاثهم} أي أبغض أن يخرجوا معك قدراً {فثبطهم} أي أخرهم، {وقيل اقعدوا مع القاعدين} أي قدراً، ثم بين تعالى وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين، فقال: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا} أي لأنهم جبناء مخذولون {ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة} أي ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة، {وفيكم سماعون لهم} أي مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير. وقال مجاهد {وفيكم سماعون لهم}: أي عيون يسمعون لهم
الأخبار وينقلونها إليهم، وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم، بل هذا عام في جميع الأحوال، والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق، وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين. وقال محمد ابن إسحاق: كان الذين استأذنوا فيما بلغني من ذوي الشرف منهم عبد اللّه بن أبي سلول و الجد بن قيس وكانوا أشرافاً في قومهم فثبطهم اللّه لعلمه بهم أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده، وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم،
فقال: {وفيكم سماعون لهم}، ثم أخبر تعالى عن تمام علمه فقال: {واللّه عليم بالظالمين}، فأخبر بأنه يعلم ما كان وما يكون، ولهذا قال تعالى: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا} فأخبر عن حالهم كيف يكون لو خرجوا ومع هذا ما خرجوا، كما قال تعالى: {ولو أنا كتبنا عليهم أن
اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً}
.
الآية رقم (48)
{ لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون }
يقول تعالى محرضاً لنبيه عليه السلام على المنافقين: {لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور} أي لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماده مدة طويلة، وذلك أول مقدم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة رمته العرب عن قوس واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها فلما نصره اللّه يوم بدر وأعلى كلمته، قال عبد اللّه بن أبي وأصحابه: هذا أمر قد توجه، فدخلوا في الإسلام ظاهراً، ثم كلما أعز اللّه الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم، ولهذا قال تعالى: {حتى جاء الحق وظهر أمر اللّه وهم كارهون}.
الآية رقم (49)
{ ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين }
يقول تعالى: ومن المنافقين من يقول لك يا محمد {ائذن لي} في القعود، {ولا تفتني} بالخروج معك بسبب الجواري من نساء الروم، قال تعالى: {ألا في الفتنة سقطوا} أي قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازة للجد بن قيس : (هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر؟) فقال: يا رسول اللّه أو تأذن لي ولا تفتني، فواللّه لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن، فأعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال: (قد أذنت لك)، ففي الجد بن قيس نزلت هذه: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني} "أخرجه محمد بن إسحاق عن الزهري وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وغير واحد، وكان الجد بن قيس من أشراف بني سلمة"الآية: أي إن كان يخشى من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة لتخلفه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم، {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} أي لا محيد لهم عنها ولا محيص ولا مهرب.
الآية رقم (50 : 51)
{ إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون . قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون }
يعلم تبارك وتعالى نبيّه صلى اللّه عليه وسلم بعدواة هؤلاء له لأنه مهما أصابه من حسنة، أي فتح ونصر وظفر على الأعداء مما يسره ويسر أصحابه ساءهم ذلك، {وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل} "في اللباب: أخرج ابن أبي حاتم: جعل المنافقون المتخلفون بالمدينة يخبرون عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أخبار السوء، ويقولون: إنه هو وأصحابه، فساءهم ذلك، فأنزل اللّه: {إن تصبك حسنة...} الآية"أي قد احترزنا من متابعته قبل هذا، {ويتولوا وهم فرحون} فأرشد اللّه تعالى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى جوابهم في عداوتهم هذه التامة، فقال {قل} أي لهم، {لن يصيبنا إلا ما كتب اللّه لنا} أي نحن تحت مشيئته وقدره، {هو مولانا} أي سيدنا وملجؤنا، {وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} أي ونحن متوكلون عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الآية رقم (52 : 54)
{ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون . قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين . وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون }
يقول تعالى: {قل} لهم يا محمد، {هل تربصون بنا} أي تنتظرون بنا {إلا إحدى الحسنيين} شهادة أو ظفر بكم، {ونحن نتربص بكم} أي ننتظر بكم {أن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده أو بأيدينا} أي ننتظر بكم هذا بسبي أو بقتل، {فتربصوا إنا معكم متربصون}، وقوله تعالى: {قل أنفقوا طوعا أو كرها} "في اللباب: أخرج ابن جرير: قال الجد بن قيس: إني رأيت لم أصبر ولكن أعينك بمالي، فنزلت فيه: {أنفقوا طوعا أو كرها...} الآية"أي مهما أنفقتم من نفقة طائعين أو مكرهين {لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين} ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك وهو أنهم لا يتقبل منهم {إلا أنهم كفروا باللّه وبرسوله} أي والأعمال إنما تصح بالإيمان، {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} أي ليس لهم قدم صحيح ولا همة في العمل، {ولا ينفقون} نفقة {إلا وهم كارهون}، وقد أخبر الصادق المصدوق صلى اللّه عليه وسلم: (أن اللّه لا يمل حتى تملوا) و(أن اللّه طيب لا يقبل إلا طيباً)، فلهذا لا يتقبل اللّه من هؤلاء نفقة ولا عملاً، لأنه إنما يتقبل من المتقين.
الآية رقم (55)
{ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون }يقول تعالى لرسوله صلى اللّه عليه وسلم: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم}، كقوله تعالى: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا}، وقوله: {إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} قال الحسن البصري: بزكاتها والنفقة منها في سبيل اللّه، وقال قتادة: هذا من المقدم والمؤخر تقديره: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الآخرة، واختار ابن جرير قول الحسن، وهو القول القوي الحسن، وقوله: {وتزهق أنفسهم وهم كافرون} أي ويريد أن يميتهم - حين يميتهم - على الكفر ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم؛ عياذاً باللّه من ذلك، وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فما هم فيه.
الآية رقم (56 : 57)
{ ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون . لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون }
يخبر تعالى نبيه محمداً صلى اللّه عليه وسلم عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم أنهم {يحلفون بالله إنهم لمنكم} يميناً مؤكدة {وما هم منكم} أي في نفس الأمر، {ولكنهم قوم يفرقون} أي فهو الذي حملهم على الحلف، {لو يجدون ملجأ} أي حصناً يتحصنون به وحرزاً يتحرزون به، {أو مغارات} وهي التي في الجبال {أو مدخلا} وهو السرب في الأرض والنفق، {لولوا إليه وهم يجمحون} أي يسرعون في ذهابهم عنكم، لأنهم إنما يخالطونكم كرهاً لا محبة، ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغم، لأن الإسلام وأهله لا يزالون في عز ونصر ورفعة.
الآية رقم (58 : 599
{ ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون . ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون }
يقول تعالى: {ومنهم} أي ومن المنافقين {من يلمزك} أي يعيب عليك {في} قسم {الصدقات} إذا فرقتها، ويتهمك في ذلك، وهم المتهمون المأبونون، ومع هذا لا ينكرون للدين، وإنما ينكرون لحظ أنفسهم، ولهذا {فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} أي يغضبون لأنفسهم، قال قتادة: ومنهم من يطعن عليك في الصدقات، وذكر لنا أن رجلاً من أهل البادية أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يقسم ذهباً وفضة، فقال: يا محمد! واللّه لئن كان اللّه أمرك أن تعدل ما عدلت، فقال نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ويلك فمن الذي يعدل عليك بعدي؟)، وهذا الذي ذكره قتادة يشبه ما رواه الشيخان عن أبي سعيد في قصة ذي الخويصرة لما اعترض على النبي صلى اللّه عليه وسلم حين قسم غنائم حنين، فقال له: اعدل، فإنك لن تعدل، فقال: (لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل)؛ ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد رآه مقفياً: (إنه يخرج من ضِئْضِيء أي من أصله ومعدنه أو من نسله هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء)، وذكر بقية الحديث. ثم قال تعالى منبهاً لهم على ما هو خير لهم من ذلك {ولو أنهم رضوا ما آتاهم اللّه ورسوله وقالوا حسبنا اللّه سيؤتينا اللّه من فضله ورسوله إنا
إلى اللّه راغبون} فتضمنت هذه الآية الكريمة أدباً عظيماً وسراً شريفاً، حيث جعل الرضا بما آتاه اللّه ورسوله، والتوكل على اللّه وحده، في قوله {وقالوا حسبنا الله}، وكذلك الرغبة إلى اللّه وحده، في التوفيق لطاعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وامتثال أوامره وترك زواجره، وتصديق أخباره والاقتفاء بآثاره.
الآية رقم (60)
{ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم }
لما ذكر تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى اللّه عليه وسلم، ولمزهم إياه في قسم الصدقات، بيَّن تعالى أنه هو الذي قسمها وبين حكمها وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره، فجزأها لهؤلاء المذكورين، وقد اختلف العلماء في هذه الأصناف الثمانية، هل يجب استيعاب الدفع لها أو إلى ما أمكن منها؟ على قولين: أحدهما أنه يجب ذلك، وهو الشافعي وجماعة، والثاني : أنه لا يجب استيعابها بل يجوز الدفع إلى واحد منها، وهو قول مالك وجماعة من السلف والخلف منهم عمر وابن عباس وحذيفة وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون ابن مهران وغيرهم . وقال ابن جرير: وهو قول عامة أهل العلم؛ وإنما قدم الفقراء ههنا على البقية لأنهم أحوج من غيرهم على المشهور، ولشدة فاقتهم وحاجتهم، وعند أبي حنيفة: أن المسكين أسوأ حالاً من الفقير، وهو كما قال أحمد، قال عمر رضي اللّه عنه: الفقير ليس بالذي لا مال له، ولكن الفقير الأخلق الكسب؛ قال ابن علية: الأخلق المحارف عندنا والجمهور على خلافه، وروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وابن زيد.
واختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئاً، والمسكين هو الذي يسأل ويطوف ويتبع الناس، وقال قتادة: الفقير من به زمانة، والمسكين الصحيح الجسم.
ولنذكر أحاديث تتعلق بكل من الأصناف الثمانية. فأما الفقراء فعن ابن عمر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرّةٍ سويّ) "رواه أحمد وأبو داود والترمذي".
وعن عبيد اللّه ابن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى اللّه عليه وسلم يسألانه من الصدقة فقلّب فيهما البصر، فرآهما جلدين، فقال: (إن شئتما أعطيتكما ولا حظّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب)
"رواه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد جيد قوي"، وأما المساكين فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان) قالوا: فما المسكين يا رسول اللّه؟ قال: (الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئاً) "رواه الشيخان". وأما العاملون عليها فهم الجباة والسعاة يستحقون منها قسطاً على ذلك، ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة لما ثبت عن عبد المطلب بن الحارث أنه انطلق هو والفضل بن العباس يسألان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليستعملهما على الصدقة، فقال: (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد إنما هي أوساخ
الناس)
"رواه مسلم". وأما المؤلفة قلوبهم فأقسام: منهم من يعطى ليسلم، كما أعطى النبي صلى اللّه عليه وسلم "صفوان بن أمية"من غنائم حنين، وقد كان شهدها مشركاً، كما قال الإمام أحمد عن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي "رواه أحمد ومسلم والترمذي". ومنهم من يعطى ليحسن إسلامه ويثبت قلبه، كما أعطى يوم حنين أيضاً جماعة من صناديد الطلقاء وأشرافهم مائة من الإبل، مائة من الإبل، وقال: (إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه خشية أن يكبه اللّه على وجهه في نار جهنم) وفي الصحيحين عن أبي سعيد: أن علياً بعث إلى النبي صلى
اللّه عليه وسلم بذهبية في تربتها من اليمن فقسمها بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس، وعيينة بن بدر، وعلقمة بن علاثة، وزيد الخير، وقال: (أتألفهم)
، ومنهم من يعطى لما يرجى من إسلام نظرائه. ومنهم من يعطى ليجبي الصدقات ممن يليه أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد.
وهل تعطى المؤلفة على الإسلام بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم ؟ فيه خلاف، فروي عن
عمر وعامر والشعبي وجماعة أنهم لا يعطون بعده، لأن اللّه قد أعز الإسلام وأهله ومكن لهم في البلاد وأذل لهم رقاب العباد، وقال آخرون: بل يعطون لأنه عليه الصلاة والسلام قد أعطاهم بعد فتح مكة وكسر هوزان، وهذا أمر قد يحتاج إليه فيصرف إليهم. وأما الرقاب فروي عن الحسن البصري ومقاتل وسعيد بن جبير أنهم المكاتبون؛ وهو قول الشافعي والليث رضي اللّه عنهما، وقال ابن عباس والحسن لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة، وهو مذهب أحمد ومالك أي أن الرقاب أعم من أن يعطى المكاتب أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالاً؛ وفي الحديث: (ثلاثة حق على اللّه عونهم: الغازي في سبيل اللّه، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف) "رواه أحمد وأصحاب السنن إلا أبا داود". وفي المسند عن أبي البراء بن عازب قال: جاء رجل فقال: يا رسول اللّه دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، فقال: (أعتق النسمة وفك الرقبة)، فقال: يا رسول اللّه أو ليسا واحداً؟ قال: (لا، عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها) "أخرجه الإمام أحمد في المسند". وأما الغارمون فهم أقسام: فمنهم من تحمل حمالة أو ضمن ديناً فلزمه فأجحف بماله أو غرم في أداء دينه أو في معصية ثم
تاب فهؤلاء يدفع إليهم، لما روي عن أبي سعيد قال: أصيب رجل في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (تصدقوا عليه)، فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال النبي لغرمائه: (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) "أخرجه مسلم في صحيحه". وأما {في سبيل اللّه} فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديون. وعند الحسن: والحج من سبيل اللّه وكذلك {ابن السبيل} وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شيء يستعين به على سفره، فيعطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده وإن كان له مال، لحديث أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل اللّه، وابن السبيل، أو جار فقير فيهدي لك أو يدعوك) "رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري". وقوله: {فريضة من الله} أي حكماً مقدراً بتقدير اللّه وفرضه وقسمه {والله عليم حكيم}: أي عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده، {حكيم} فيما يقوله ويشرعه ويحكم به لا إله إلا هو ولا رب سواه.